في الفيلم الذي يحمل عنوان هذه المقالة “الوفاء بالعطاء” (Pay It Forward) يُطلق البطل، وهو صبي يبلغ عمره 11 عاماً، حركة “النية الطيبة” المبنيّة على فكرة ردّ الجميل الذي نتلقّاه من شخص ما بعطاء إلى أشخاص آخرين بدلاً من وفائه لفاعل الخير الأصلي. استطاع هذا الفيلم عند عرضه لأول مرة عام 2001 أن يولّد طاقة إيجابية بين الكثير من الناس ويخلق لديهم وعياً قوياً وإيماناً راسخاً بهذه الفكرة. ويُظهر الفيلم كيف أن دائرة الوفاء بالعطاء والعمل الصالح تتسع فعلياً أكثر فأكثر لتطال عدداً أكبر من الناس متخطية بذلك فاعل الخير والمتلقي، فينشأ أثر هرمي عبر المجتمع ككل وضمن شرائح عديدة ومختلفة من المستفيدين، وهكذا يتضاغف تأثير ذلك الفعل وربما يعود مجدداً ليطال فاعل الخير الأصلي. إذاً، فالأعمال الصالحة لا تذهب سدىً، والوفاء بالعطاء إنما هو طريقة خلاقة لتحويل المعروف الذي نتلقاه من الآخرين إلى أثر “دومينو” حقيقي ودافع محرك لتقديم المساعدة والدعم لأشخاص آخرين في المجتمع، مع صون الدفق الإيجابي لسلسلة لا متناهية من أفعال السخاء والعطاء والنوايا الطيبة بين أبناء المجتمع كله. وتجري آلية الوفاء بالعطاء على قاعدة أن نقدّم المساعدة لشخص ما أو نمدّ له يد العون مع إخباره بأننا لا ننتظر منه ردّ الجميل وبأن سداد المعروف يتمّ من خلال مساعدته لشخص آخر يحتاج لتلك المساعدة، أي إن الوفاء يكون بالعطاء لشخص آخر وليس بردّه إلى صاحبه الأصلي، ومن ثم ينبغي على ذلك الشخص أن يتصرف بنفس طريقتنا وهلمّ جرّا.
إن فكرة العطاء أو مساعدة الآخرين عموماً من دون توقّع أي مقابل إنما هي مفهوم متأصّل بعمق في التاريخ والتراث البشري، إذ إن لدى الناس جميعاً ذلك الإحساس الداخلي، بدرجات مختلفة، بالرغبة في مدّ يد العون والمساعدة حينما يقفون أمام إنسان آخر بحاجة فعلية وحقيقية للمساعدة. ولطالما شكّلت فكرة عطاء المحتاجين ومساعدة الآخرين، على مر التاريخ وعبر مختلف الثقافات والأديان والحضارات، ركيزة اجتماعية أساسية في المجتمعات كلها. ولقد أدرك الإسلام، كما سائر الحضارات الأخرى، مفهوم العطاء وتبنّاه منذ البداية، وأكّد على أن التصدّق إنما هو أحد أركان الإسلام الخمسة، جاعلاً من الزكاة فريضة على جميع المسلمين. ولن أدخل هنا في تفاصيل القيم المضافة الدينية والاجتماعية لمفهوم الزكاة والعطاء على اعتبار أننا نعرفها جميعاً كما ندرك أيضاً أنها مفيدة لنا (على المستويات كافة) ولرفاه مجتمعنا على النطاق الواسع.
وحتى في أيامنا هذه نجد أن الكتب الرئيسة المعاصرة التي تُعنى بتطوير الذات، تركّز دائماً على قيمة المساعدة والعطاء، بوصفهما تخلقان أثراً إيجابياً وثواباً وفيراً لفاعل الخير نفسه. ومن نافل القول إن فوائد التصدّق على المحتاجين لا تقتصر على كوننا سنتلقى رداً على معروفنا بطريقة ما (ما دام العمل الصالح لا يضيع أبداً)، بل إنها تساعدنا فعلياً لكي نفتح أعيننا على ما يجري في المجتمع من حولنا ويجعلنا نفكر في الآخرين الأقل حظاً منا في الحياة. ولا شيء يضاهي البهجة والسعادة اللتين نرسمهما على وجه إنسان نعلم أنه بأمسّ الحاجة إلى المساعدة والعون. فذلك يجعلنا نتواصل أكثر مع أرواحنا ويأخذنا بعيداً عن أنماط العيش اليومية المادية.
فيما يلي بعض الأفكار حول تقديم المساعدة ومدّ يد العون بشكل عام والتي جمعتها بناء على تواصلي مع أناس كثر، أفكار أحاول اعتمادها وتبنيها في سلوكي الشخصي. ويكمن مغزى هذه الأفكار في التركيز على استمرارية العطاء لا على كميّته، فمنح القليل بشكل مستمر ودائم أفضل بكثير من منح الكثير مرة أو مرتين فقط، كما إنه من المهم عدم الاكتفاء بالتصدّق على المحتاجين في الشوارع والتبرع للمنظمات الخيرية التي نفضلها، بل يُستحسن أن نشارك فعلياً في بعض الأعمال الخيرية.
- تعوّد على تكريس مقدار ثابت أو نسبة محددة من أي دخل تجنيه لمساعدة الآخرين أو للأعمال الخيرية. وقد يكون ذلك دخلك الشهري أو العلاوات التي تحصل عليها وما إلى ذلك. فتقتطع جزءاً منه لمساعدة الأسر المحتاجة التي تعرفها أو لدعم منظمة خيرية تفضلها أو لشراء الأغطية والتبرع بها للأسر الفقيرة في الشتاء. واللائحة تطول وتطول… ومطلوب منا في الإسلام مثلا اقتطاع ما نسبته 2.5% من دخلنا على شكل زكاة، انطلاقا من ذلك، اقترح أحد أصدقائي: لماذا لا نعتاد على اقتطاع نسبة 2.5% من أي دخل نجنيه ونتبرّع به لمساعدة المحتاجين ونتخذ ذلك مبدأً ثابتاً في حياتنا؟ لقد أُعجبت شخصياً بالفكرة، كونها تحثني على التزام هذه العادة وتجعلني أصبو إلى تحقيق هدف شهري يتخطى إشباع احتياجاتي وطموحاتي الشخصية.
- لا تكتف فقط بالتبرع بملابسك القديمة. جرّب أن تحدد عدداً ثابتاً من كل نوع من أنواع ملابسك وحافظ على ذلك العدد دائماً. فإن كنت تملك على سبيل المثال 15 زوجاً من الأحذية، حافظ على ذلك العدد واحرص على ألا يزيد. فإذا ما اشتريت زوجاً جديداً من الأحذية يجب أن تتبرع بزوج من أحذيتك القديمة. ويا أيتها السيدات، إنني أذكر الرقم 15 على سبيل المثال فقط، وبوسعكنّ تحديد العدد الذي ترغبن فيه، المهم تثبيت ذلك العدد والالتزام به. ولعل هذه إحدى الأفكار التي تساعدك على تذكّر الآخرين في كل مرة ترغب فيها بتدليل نفسك وشراء زوج حذاء جديد (أو أي شيء من هذا القبيل). فاللباس الذي ستتبرع به قد لا يكون قديماً أو بالياً، بل على العكس من المرجح أن يكون بحالة جيدة جداً، وهكذا يبدو الأمر وكأنك تفكر باختيار واحد من ملابسك المفضلة لتقدّمه (هديةً) إلى شخص قد يحتاجه أكثر منك.
- الأقربون أولى بالمعروف. قد يفاجئك أن بعضاً من أقربائك القريبين أو البعيدين يستحق المساعدة. وفي هذه الحال عليك مساعدتهم أولاً، لأنهم ينتمون إلى عائلتك. كما يتوجب عليك والحال هذه التزام درجة أعلى من الحرص والتكتم لكيلا يعرفوا أنك أنت من يساعدهم ولتفادي إحراجهم أو جرح كبريائهم،
- <span”>في حال علموا أنك أنت من قام بالتبرع. </span”>
- لا يقتصر الأمر دائماً على التبرع بالمال. أعلم أن جميعنا مشغول، لكن هل فكّرت يوماً بالتبرع بساعة من وقتك في الشهر للعمل في مستشفى للأطفال على سبيل المثال، أو للذهاب إلى أكثر الأحياء فقراً في بلدتك والمساعدة في توزيع الطعام واللباس مع إحدى المنظمات الخيرية في البلدة؟ جرّب ذلك واستمتع بشعور رائع. بوسعك أيضاً التطوع للعمل مع المدارس المحلية بغية تعليم الطلاب بعض المهارات الأولية البسيطة في مجال تخطيط مسارهم المهني المستقبلي وتدريبهم على ذلك، إذ إنهم بأمسّ الحاجة إلى تعلم تلك المهارات والتدرب عليها، لكنهم لا يعلمون ذلك ولا يحصلون على ما يحتاجونه في مدارسهم. وفي مثال آخر، أطلق بعض الزملاء مبادرة مشابهة يقومون فيها بجمع تبرعات الملابس والطعام المعلّب من الجميع، حيث تقوم مجموعة من المتطوعين في نهاية كل شهر بزيارة العائلات الفقيرة وتوزيع التبرعات المجموعة عليهم. وأود ن أذكر هنا مثالا أخر من أفضل القصص التي سمعتها في هذا المجال. إذ تقوم مجموعة من الفنانين الألمان بتنظيم معارض فنية في بعض المدن الألمانية ومن ثم تأخذ ما جمعته من مال في تلك المعارض إلى مخيمات اللاجئين السوريين في تركيا، وتشتري به حافلة كبيرة تحوّلها إلى مكتبة متنقّلة. فأولئك الفنانون يرون أن الأطفال الذين يعيشون في المخيمات يخسرون، بسبب الحرب وما تجلبه لهم من دمار وخراب، أهم ما يمكن أن يساعدهم على ضمان مستقبل أفضل، ألا وهو التعليم. ولم يترك الفنانون العمل للآخرين، بل شاركوا بأنفسهم في نشاط تعليم الأطفال. ولا يسعنا هنا سوى الإعراب عن تقديرنا وإعجابنا بالأفكار والجهود التي تقف خلف هكذا سلوك ينمّ عن النبل والإيثار في خدمة الآخرين.
- ماذا نفعل بالطعام الفائض؟ يشكل هذا الموضوع قصة لا تنتهي. ولعل معظمنا يواجه من وقت لآخر مشكلة طلب أو تحضير كمية من الطعام تفوق حاجة الأسرة. بالطبع يمكنك الاحتفاظ بالفائض إلى اليوم التالي أو ما شابه. لكنك قد تواجه مشكلة أن أحد أفراد أسرتك لا يرغب في تناول بقايا الطعام. وهنا أقترح التالي: عوضاً عن الدخول في هذا الجدال أصلاً، اعتد على التبرّع بفائض الطعام، وبخاصة بعد الاحتفالات والأعياد. فهنالك العديد من المنظمات الخيرية المستعدة للقدوم إليك وجمع الفائض من طعامك وإعادة تعبئته وتوزيعه على المحتاجين. وفكرة أخرى تقوم مثلا على تنسّق مع جيرانك في البناية أو الحي لشراء ثلاجة تجارية كبيرة تضعونها بالقرب من مدخل البناية وتضعون فيها فائض طعامكم وتتيحونه لعابري السبيل ليأخذوا منه حاجتهم؟ فقد يستفيد من هذه الإمكانية عمال النظافة والبلدية (وكلنا يعلم مدى تدنّي مرتباتهم الشهرية)، إضافة إلى أي عابر سبيل جائع قد يمر مصادفة في المكان.
إن ربط فكرة الوفاء بالعطاء مع فعل مساعدة المحتاجين بشكل عام، هو الذي يخلق الأثر الأكبر لهذه العملية ويزيد من سرعة نمو حجم شريحة المستفيدين. غير أن فعل مدّ يد العون للمحتاجين بحد ذاته يشكّل في جميع الأحوال تجربة مُثرية، وبخاصة عندما يكون ذلك الفعل نابعاً من القلب… فلْتجعل العطاء من عاداتك الأساسية ولْتضف رسالة تذكير إلى هاتفك الذكي (على رأس قائمة مهامك) تلفت انتباهك، ولنقل في أول كل شهر على سبيل المثال، إلى أن “مرتبك الشهري قد أصبح في الحساب، فلا تنسَ أن تقتطع منه 2.5% لمساعدة من ليس لديهم مرتب شهري”. وختاماً، تذكّر دائماً حديث النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال: “ما نقص مال من صدقة“.