في فيلم إنترستيلر (Interstellar)، طُلِب من بطل الفيلم كوبر (الذي يؤدي دوره ماثيو ماكونهي) إنقاذ العالم الذي نعرفه (وهو بالمناسبة أكبر عمل بطولي)، ولكن في المقابل، يجب أن يترك وراءه كل أحبائه وقد لا يستطيع رؤيتهم مرة أخرى، وفي الوقت الذي سينقذ ببطولته الجنس البشري في المدى البعيد، فإنه لن يكون قادراً على إنقاذ أطفاله وأحبائه في المدى القريب، وسيكون عليه تركهم لمصيرهم الحتمي. كما أنه لن يكون جزءاً من مستقبل أطفاله ولن يراهم يكبرون أمام عينيه، ولن يكون بعد تلك المجازفة جزءاً من حياتهم. طرح هذا الفيلم نقطتين مهمتين للغاية برأيي الشخصي، وهما:
1) هل لدينا جميعاً أحلام وتطلعات ضخمة نريد تحقيقها؟ ما الذي يجعل الأشخاص الناجحين ناجحين؟ سأجادل برأيي بأن الإجابة هي لا، لسنا جميعاً أصحاب أحلام وتطلعات ضخمة.
2) كيفية قضاء وقتنا، وهل قضيناه لتحقيق الإنجازات الشخصية أم لإضافة قيمة إلى حياة الآخرين (أي أفراد الأسرة والأحباء)؟ الإجابة على هذا السؤال ليست بهذه السهولة، فعلى الرغم من افتراضنا أن هناك إجابة مثالية، لكن الواقع من حولنا يثبت عكس ذلك.
لنبدأ بالنقطة الأولى: تتطلب الإنجازات الضخمة تضحيات ضخمة أيضاً، وبناءً على الفيلم المذكور، فإن الوصول إلى النجوم، يحتّم على المرء أن يكون مستعداً لترك أحبائه على الأرض، بمعنى مجازي (أي الاختيار بين أمرين أحلاهما مر). وعند التفكير بمثالية، قد يقول أي شخص منا “يمكنني بالطبع اتخاذ أي قرار لتحقيق هدف أكبر من هذه التضحية” ولكن في الواقع، نلجأ دائماً بطبيعتنا البشرية لتقييم المخاطر في كل ما يعترضنا، ونتخذ قرارنا اعتماداً على صفاتنا الشخصية، لذا لن تكون مواجهة التحديات مثل المذكور أعلاه بالسهولة المتوقعة إذا تمحور الموضوع حول العائلة والأطفال. ومن ناحية أخرى، يعيش غالبية البشر حياتهم دون تحقيق أي أثر أو إنجاز ما يطمحون إليه، وذلك ببساطة لأن هذه الطموحات كانت مجرّد آمال.
يختلف تعريف النجاح والإنجاز من شخص لآخر، ولا علاقة لذلك بمدى كبر أهدافنا أو صغرها مقارنة بالآخرين، ويجب ألا نقارن ذلك أبداً، إذ لكلٍّ منا ظروفه وخبراته التي تميزه عن غيره، فقد يرغب البعض في تأسيس عائلة صغيرة سعيدة والحصول على منزل لائق ووظيفة ملائمة، بينما يريد البعض الآخر أن يكون لاعب كرة قدم مشهوراً، أو عضواً في منظمة أطباء بلا حدود لمساعدة الآخرين في جميع أنحاء العالم، وقد يرغب البعض بأن يكونوا من الأثرياء. لذا لا يوجد نموذج واحد للحياة السعيدة أو النجاح لأن لكلٍّ منا خطته الخاصة. ومع ذلك، هناك شيء واحد مؤكد، وهو أنه لا يوجد من يحقق خطته بمفرده، وأن العوامل الخارجية في حياتنا تلعب دوراً كبيراً في دعم تحقيق خططنا أو عرقلتها.
بالنظر إلى النجاح من زاوية أخرى، يتحدّث كتاب الاستثنائيون (The Outliers) من تأليف مالكولم غلادويل بالتفصيل عمّا جعل الناجحين كذلك، ويناقش حالة الأشخاص الذين يحققون إنجازات عادية، ويقارن بين تعريف النجاح بالنسبة لنا والنجاح كما يجب أن يكون. يتضمن الكتاب فكرة مفادها أن لا أحد تمكّن من النجاح بمفرده، وأن خلفيات الأشخاص الناجحين وظروف نشأتهم وأهاليهم ومجتمعهم وفترة ميلادهم كلها عوامل مساهمة في قصص النجاح، لذا فإن العوامل الخارجية هي في الغالب أساسية في تحقيق النجاح أو عرقلته في بعض قصص النجاح المشهورة.
في العديد من أنظمة التعليم في جميع أنحاء العالم، يمنح نظام “التصنيف حسب المهارات” (ability grouping) مزايا للأطفال الموهوبين نسبياً، وبالتالي يدعمهم عن طريق برامج تعليمية أفضل، بينما يبقى الأطفال الآخرون ضمن البرامج التعليمية المعتادة، وهذا يمنح الأطفال الموهوبين فرصة للتطوّر بينما يحدّ من قدرة الأطفال الآخرين على ذلك، ويمكن أن نناقش هذا المبدأ في العديد من جوانب الحياة، فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة، الضرائب على الأغنياء أقل وتتضمن تسهيلات أكثر من تلك المفروضة على الفقراء، وذلك بسبب فهمهم لنظام الضرائب وكيفية الاستفادة منه أكثر من غيرهم، وبالتالي فإن الأغنياء يصبحون أغنى والفقراء يزدادون فقراً. ومع ذلك، فإن النقطة هنا هي فهم تأثير العوامل الخارجية في نجاح الأشخاص؛ حيث يكون النجاح مدفوعاً بالعوامل الثلاثة الرئيسية التي تتبنّاها مجتمعاتنا بشكل عام، وهي: الاختيار والمقارنة والتجارب المتباينة.
على سبيل المثال، إذا ولد شخصان في اليوم نفسه، لكن أحدهما ولد في مدينة أميركية، بينما ولد الآخر في قرية فقيرة في اليمن (بافتراض أن لكليهما نفس مستوى الذكاء)، فإن المزايا التي سيحصل عليها الطفل المولود في الولايات المتحدة الأميركية (مثل البيئة وجودة التعليم والموارد والمال وما إلى ذلك) ونقص هذه الموارد للطفل المولود في اليمن ستحدث فرقاً كبيراً بين الطفلين لأن المزايا ستؤثر بشكل واضح وفعّال على حياة الطفل الأميركي.
وهناك مثال آخر في مجال الرياضة؛ حيث عادة ما تكون الفئة العمرية هي المعيار الأول في عملية الاختيار والقبول لأي طفل يمارس أي رياضة. وفي هذا المجال، خاصة في العالم الغربي، يجري الاختيار حسب العمر أولاً، ثم مقارنة اللاعبين الموهوبين باللاعبين العاديين أو الأقل من العاديين، حيث يمكن ملاحظة هؤلاء الموهوبين ورعايتهم. وبعد ذلك، يحصل اللاعبون الموهوبون على رعاية متميزة يتلقّون فيها تدريبات إضافية أو برامج خاصة تعزّز مواهبهم ليصلوا إلى الاحتراف، وكل ذلك من أجل إبراز هؤلاء اللاعبين في أوساطهم.
وبشكل عام، إذا لم يحصل طفل ما على هذه السلسلة من المدخلات فلن يحصل على أي امتيازات. يتحدث الكتاب أيضاً عن العدد السحري للساعات التي يجب أن يقضيها أي شخص في تعلم أو ممارسة مهارة معينة ليصبح خبيراً فيها، وهذا العدد هو 10,000 ساعة. وحتى الآن، لم يُعرَف أي شخص أصبح خبيراً في مجال ما دون أن يقضي 10,000 ساعة على الأقل في التعلّم والممارسة، من فرقة الروك الشهيرة، البيتلز، إلى مؤسس شركة مايكروسوفت، بيل غيتس، وبيل جوي من شركة صن ميكروسيستمز (Sun Microsystems)، والقائمة تطول من الفنانين والأساطير الرياضية إلى قادة الأعمال وغيرهم.
والآن ننتقل إلى الفكرة الثانية، ما هو أكثر ما يهمنا كأفراد؟ هل المزيد من الوقت الممتع مع العائلة والأحباء، أم تحقيق الأهداف الشخصية والأحلام؟ قد نستطيع تحقيق بعض من الجانبين في آن واحد، لكن تحقيق الجانبين بالكامل معاً غير ممكن، ففي نمط الحياة المزدحم اليوم، يعمل العديد من الأهالي العاملين، وخاصة الرجال، لأوقات متأخرة ولا يمكنهم رؤية أطفالهم لأيام، وعذرهم عادة ما يكون أعباء العمل، والمقارنة تستند إلى أن النساء لديهن قدرة أفضل على انجاز عدة مهام في وقت واحد، مما يحعلهن أفضل من الرجال في تحقيق التوازن.
وقد نفترض أننا نعمل لوقت متأخر وبجد حتى نتمكن من توفير حياة أفضل لعائلاتنا، وفي حين أن هذا صحيح جزئياً، لكنه من ناحية أخرى فعل أناني بعض الشيء؛ لأننا أيضاً نرضي غرورنا ونغذّيه من خلال العمل الجاد حتى نتمكن من تحقيق المزيد من النجاح والتفوّق على الآخرين باعتبارنا مستحقين للنجاح. لكن في الواقع، لا يهتم الأطفال حقاً بالأجر الذي يكسبه أهاليهم، وهم على استعداد لقبول أقل مما يوفره ذووهم مقابل قضاء مزيد من الوقت الممتع معهم.
كان بإمكان كوبر في الفيلم رفض المهمة وقضاء بقية حياته مع أطفاله ورؤيتهم يكبرون بوجوده، لكنه اختار عكس ذلك؛ لأنه لم يعلم أن المهمة سوف تستغرق كل ذلك الوقت الطويل، وأراد إنقاذ الجنس البشري عموماً ومستقبل أبنائه أيضاً.
إذا قرأت أي أعمال أدبية تتعلق بالموت، فستلاحظ أن أحداً لم يتحدث أبداً عن رغبته في قضاء مزيد من الوقت لكسب مزيد من الثروة أو إجراء صفقة أخرى أو شراء سيارة جديدة. ففي مثل هذه الأوقات، لا تكون الممتلكات المادية والشخصية ذات أهمية، وإنما المهم هو جودة الحياة التي نعيشها، والوقت الذي أمضيناه مع عائلاتنا وأحبائنا، ووجودنا إلى جانب أطفالنا في مختلف مراحل حياتهم، وتعبيرنا عن حبنا للأشخاص الذي نحبهم، والقرارات التي جازفنا بها لنعيش حياة هانئة، وحقيقة أننا عشنا حياتنا فعلاً أم أمضيناها في العمل لكسب المال حتى وصلنا إلى النهاية، والمفارقة بين مطاردتنا لأحلامنا أو قضاء حياتنا نتساءل عما كان سيحدث لو حققناها.
لا توجد إجابة صحيحة أو خاطئة هنا، حيث يعتمد الأمر كله على أولوياتك الشخصية في الحياة وما هو الأهم بالنسبة لك. سنقول جميعاً إن أحباءنا وأطفالنا هم الأهم، ولكن في الواقع لا نتصرف جميعاً وفقاً لذلك، أو أننا نقضي وقتاً ممتعاً كافياً معهم. أخبرني أحد أصدقائي ذات مرة أنه كل يوم بعد انتهاء عمله يسأل نفسه بوعي: “الساعة الآن 6 مساءً، يمكن أن أختار العودة إلى المنزل الآن وقضاء بعض الوقت مع أطفالي قبل نومهم، أو البقاء في العمل وعدم قضاء الوقت معهم والعودة إلى المنزل بعد أن يكونوا قد غفوا”، وقال إن طريقة التفكير هذه والنظر إلى الموقف ساعداه في معظم الوقت على اتخاذ القرار الصحيح والعودة إلى المنزل لقضاء وقته مع أطفاله.
فأخيراً، تذكّروا دائماً أننا نعيش هذه الحياة مرة واحدة فقط، وإذا استخدمت تشبيه عالم ألعاب الفيديو، فإنه في هذه الحياة الحقيقة ليس لدينا حيوات عدة، وليس لدينا أي فرصة للإعادة أو كسب المزيد من الوقت أو أي مزايا خارقة أخرى، وقد ينتهي وقتنا في أي لحظة، وقد تظهر جملة GAME OVER على شاشة الحياة في أي لحظة. لذا افعل ما تريد فعله أو تحقيقه، واقضِ وقتك مع من تريد قبل فوات الأوان.