لو كان عمري 30 عاماً

 

 

بينما كنت أُجري مقابلة مع إحدى المرشحات لشغل وظيفة في القسم الذي أُديره، سألتها أين تجد نفسها في السنوات الخمس المقبلة، فتبين لي أنها وضعت نصب أعينها وجهة محددة تسير نحوها وهدف بعينه ترمي إلى تحقيقه في السنوات القادمة. ولقد ذُهلتُ بخطتها بالغة الدقة والتفصيل، وكيف قامت بتخطيط أهدافها وطموحاتها حيال تدوينها لأهدافها وطموحاتها التي تصبو إلى تحقيقها وترجمتها على أرض الواقع، مستوفية جميع الجوانب، كما لو أنها كانت تصف لي خلال المقابلة مسار مستقبلها خطّته بنفسها بإتقان ودقة فائقَين. لقد كانت فعلاً ذكية وعملية جداً لدرجة كانت معها تُدرك تماماً أنها قد لا تنال أو تحقق كل ما تبتغيه في الأعوام المقبلة، وأن الخطة التي وضعتها لنفسها بنفسها ربما تتغيّر أو يطرأ عليها تبدل ما؛ غير أنها كانت مسلّحة بقناعة راسخة بأن الطموح مع التخطيط الدقيق سينقلانها إلى مستقبل باهر يحملها إلى أبعد من مجرّد أن تحيا حياتها كل يوم بيومه دونما أي هدف أو خطة.  

 

لقد حرّكت تلك المقابلة شيئاً ما في داخلي، ربما فكرة أو خاطرة. فلو أُتيحت لي فرصة العودة بالزمن إلى الوراء، ولنقُل إلى حين كنت في الثلاثين من عمري، فما هي يا ترى النصيحة التي كنت سأقدمها لنفسي مع الأخذ بالحسبان كل تلك السنوات الأربعة عشر الماضية؛ ابتداءً من مرحلة زواجي، إلى مرحلة الأبوة، مروراً بمرحلة النجاح والازدهار في مساري المهني، ومن ثم خسارتي لشركتي الخاصة وبلوغي الحضيض، وانتهاءً بالنهوض مجدداً. مع كل ما تعلمته في هذه السنين، ماذا كنت سأخبر نفسي وأنا في الثلاثين من عمري؟  

 

في فيلم بعنوان (About Time) الصادر سنة 2013، يكون بطل الفيلم (تيم) والذي يقوم بدوره الممثل “دومهنال غليسون” قادرا على الإبحار عبر الزمن إلى الماضي وتغيير ما جرى ويجري في حياته. فتخيّل لو كان بوسعنا أن نرجع بالزمن إلى الوراء ونصحّح خطأً كنّا قد ارتكبناه في الماضي وقتما نشاء، أو نبدّل نتيجة غير محمودة كنا قد توصلنا إليها. أفلا تجعل هذه الإمكانية الحياة أكثر مثالية؟ تجري أحداث الفيلم حول البطل “تيم” وهو يعيد فعل كل الأمور بالشكل الصحيح وبما يمنحه النتائج المرجوة، لينتهي به المطاف عند مغزى الفيلم، ومفاده أنك إن أردت أن تحيا الحياة وتستمتع بكل ما تُتيحه من إمكانات وفرص وتجارب، عليك أن تختبرها كما هي بعيوبها ونواقصها. وينتهي الفيلم بمقولة على لسان “تيم”: “جميعنا يُبحر في الزمن في كل يوم من أيام حياتنا، وكل ما يتوجب علينا فعله هو أن نبذل قصارى جهدنا للاستمتاع برحلة سعيدة.” حسناً، ليس لدي القدرة على التحليق والسفر عبر الزمن، مع أن ذلك قد يكون ممتعاً حقاً، إلا أنني لو كنت في الثلاثين من عمري لعملت وفق النصائح الآتية:  

 

لكن، دعني أوّلاً أشاركك ثلاث قواعد مهمة:  

 

1. الاقتناع بحقيقة أنك لا تعلم كل شيء وأنك لن تتمكن أبداً من معرفة كل شيء. إذ عندما نبلغ الثلاثين من عمرنا، نشعر بأننا على الطريق الصحيح وأننا نعلم تماماً إلى أي وجهة ذاهبون كما لو كنا بلغنا حدّ التنوير. ولكن المعذرة، فذلك مجرّد وهْم، فما زال أمامك تعلّم الكثير من الأمور التي تجهلها في هذه الحياة.  

 

2. ليس من المعيب أن تجهل بعض الأمور، لكن من المهم أن تعرف نفسك جيداً، وأن تعلم أنه عليك المثابرة على التعلّم وإثراء معرفتك وإغناء خبرتك في الحياة. وعندها فقط ستنعم بالسلام والرضا مهما تكن طبيعة حياتك.  

 

3. عليك معرفة أن كل إنسان مختلف وفريد بطبيعته، لذلك لا تقارن نفسك بالآخرين كي لا تضيّع طاقتك على الأمور الخطأ. فالشخص الوحيد الذي عليك أن تقارن نفسك به، هو أنت كما كنت البارحة أو الأسبوع الماضي أو السنة الماضية.  

 

حياتك المهنية  

 

بعمر الثلاثين من المتوقع أن تكون قد اخترت إلى حد كبير المجال الذي ترغب بالعمل فيه، وذلك بناءً على خبرتك العملية الممتدة لسنوات قليلة، وبالاعتماد إلى حد ما على مؤهلك العلمي.  

 

>كما يتحدث الكتاب عن القوى الخفية التي تقف في وجه الأنا الثانية وتمنعها من الظهور، فيجب أن تتحلى بوعي وإدراك ذاتي قوي لتكون مستعدًا للتصدي لهذه القوى.  

 

1. الشغف – مهما تكن المهنة التي اخترتها، من المهم أن تحب العمل فيها كل يوم، وإلا فلن تكون سعيداً في وظيفتك.  

 

2. مراكمة العلم والمعرفة – عليك أن تسعى لتعلّم المزيد بهدف تطوير معارفك الشخصية وبالتالي تطورك المهني، وذلك من خلال تركيز اهتمامك على أن تكون بارعاً في عملك وألا ترضى أبداً بأن يكون مستواك متوسطاً. وكما يقول “جيم رون” بأسلوب رائع في كتابه “الحياة الاستثنائية” (Exceptional Living)، “إن اجتهادك في عملك سيوفر لك مورد رزق، أما اجتهادك لتطوير ذاتك فمن شأنه أن يوفر لك ثروة كبيرة”.  

 

3. الأولويات ثم الأولويات – يمكن تشبيه الوظيفة أو الحياة المهنية بكرة مطاطية مرنة، إذا ما وقعت على الأرض فإنها قد ترتد وتعود إلى مكانها الأول. ولذلك، لا تُعِر وظيفتك وحياتك المهنية اهتماماً أكبر من حياتك الخاصة.  

 

4. هل حان الوقت لتكون رائد أعمال؟ – لا تعتقد أن علينا جميعاً تأسيس شركاتنا الخاصة، فذلك لا يناسب كل فرد منا، ومن المؤكد أنه ليس مؤشراً على النجاح أو مقياساً له. فهنالك الكثير من الأشخاص فاحشي الثراء والناجحين جداً في عملهم مع أنهم عملوا كـموظفين طوال حياتهم المهنية، ولم يتحولوا إلى أرباب عمل. لكن، إن كنت تخفي في داخلك رائد أعمال، فإن الوقت مناسب الآن لكي تخرجه إلى النور وتُطلق له العنان. ولتعلم أنك كلما تقدّمت في السن، صعب عليك أكثر التخلي عن وظيفتك وتأسيس شركتك الخاصة.  

 

5. جمع المال – عليك باختصار أن تتعلم توفير المال، ومن الأفضل البدء باكراً. هنالك الكثير من المراجع حول كيفية تنظيم شؤونك المالية وكيفية التعامل مع النقود. ضع خطتك المفضلة والتزم بتطبيقها. وفيما يلي بعض الأفكار المساعدة:  

 

• خصص مبلغاً شهرياً وضعه جانباً. وذلك بأن تحجز ذلك المبلغ بُعيد استلامك لمرتّبك الشهري مباشرة، وحتى قبل أن تدفع الفواتير الشهرية المترتّبة عليك. ولتلتزم بذلك وكأنك تؤدي فرائضك الدينية. والأفضل أن يكون ذلك المبلغ نسبة مئوية من مرتّبك الشهري (وتتراوح النسبة المثالية بين 10% و15%)  

 

• حدد مبلغاً تسعى إلى ادخاره. كأن تقول إنك ترغب في أن تكون قد ادخرت 5 ملايين دولار عندما يصبح عمرك 45 عاماً على سبيل المثال. وهكذا يتوجب عليك استكشاف الخيارات المختلفة لصناديق التمويل ومشاريع الأعمال المتنوعة لتوظيف مدخراتك الشهرية انطلاقاً من المبلغ المستهدف في المستقبل وبمساعدة الخطط الكفيلة بتحقيق ذلك الهدف. ولتتصور أنك ستتقاعد من عملك بعمر الـ 45 عاماً، وما أعنيه بالتقاعد هنا هو أن تتوقف عن العمل من أجل كسب المال. والفكرة هي في أن تكون قد جمعت ما يكفي من الثروة، بحيث أنك إن رغبت في اليوم التالي ألا تذهب إلى العمل، بل أن تستمع فيما تبقى من حياتك بالسفر والاستكشاف والقراءة والكتابة، يمكنك فعل ذلك دونما أية هموم مالية. وبهذه الطريقة يمكنك حينئذ أن تعمل بضع ساعات فقط في اليوم، إن رغبت في ذلك، بينما تركز جل اهتمامك على الأشخاص والأمور التي تستحق ذلك الاهتمام فعلاً.  

 

حياتك الخاصة  

 

تكمن سعادتك الحقة بشكل أساسي في تحقيق ذاتك وإشباع حياتك الخاصة، ولذلك عليك إيلاء الاهتمام الواجب لهذا الجانب من حياتك. وكما ذكرنا سابقاً، فإن الوظيفة أو الحياة المهنية تشبه كرة مطاطية مرنة، أما الحياة الأسرية والعلاقات الشخصية فإنها تشبه كرة زجاجية، فهي أقل مرونة بكثير من الكرة المطاطية. فانتبه جيداً!  

 

1. نصفك الآخر – إذا لم تكن متزوجاً حتى الآن، اختر شريك حياتك بحكمة ودون تسرع. وعندما تجد نصفك الآخر، هب ذلك الشخص أفضل ما لديك؛ ولا تستبقِ شيئاً، ولا ترضَ بمساومات أو بحلول وسط. إن علاقتك مع شريكك تشبه تأسيسك لشركة خاصة معه، فتلك الشركة تتطلب منكما اهتماماً دائماً وجهوداً متبادلة وعملاً مشتركاً بروح الفريق الواحد. فلا تتوقف عن بذل الجهد والاهتمام اللازمَين ولا تنظر إلى نجاح الشراكة بوصفه تحصيل حاصل. إن الدعائم الأساسية الضرورية لكل علاقة ناجحة هي الحب والثقة والاحترام. فإذا ما توفرت هذه الدعائم، يغدو كل شيء قابلاً للحل. يقول “جون غوتمان” في كتابه “المبادئ السبع الأساسية لإنجاح الزواج” (The Seven Principles for Making Marriage Work): “تزوج صديقتك المفضلة. فهنالك حقيقة بسيطة مفادها أن الزواج السعيد قوامه الصداقة العميقة، والتي أعني بها الاحترام المتبادل والمتعة المشتركة برفقة الآخر”.  

 

2. لائحة الأمنيات – قم بوضع لائحة بأمنياتك، إذا لم تكن لديك واحدة أصلاً. يجب أن يكون لديك لائحة بالأماكن التي تتمنى زيارتها والخبرات التي ترغب في أن تعيشها والذكريات التي تريد أن تحتفظ بها في حياتك. ولا شك في أن آخر ما قد ترغب فيه هو أن تبلغ الثمانين من عمرك وتشعر بالندم على أحلامك وأمنياتك التي لم تسعَ يوماً إلى تحقيقها. ولتعلم أن ما يدوم في ذاكرتك ما حييت، إنما هو التجارب العظيمة التي تخوضها، لا الأشياء التي تشتريها. وبوسعي أن أنصحك بالحساب التالي: @dreamaat_co على سناب وإنستغرام، بخاصة إن لم تكن قد وضعت لائحة أمنياتك بعد.  

 

3. صحتك – إنه الجسم الوحيد في هذا الكون الذي من المؤكد أنه سيرافقك في حياتك الباقية. فإذا لم تهتم به الآن وأنت في ريعان الشباب، فإنك ستهتم به مريضاً عندما تكبر. The Alter Ego Effect  

 

4. قيمة الوقت – إنه الرصيد الوحيد الذي لا سلطة لك عليه والذي يتضاءل باطراد مع كل ثانية تنقضي. فاستغله بحكمة واستهلكه بكفاءة. ولتتذكر أن هذا الزمن هو الزمن الحقيقي، وليس هنالك تكرار أو إعادات أو محاولات أو حيوات أخرى. والأهم من ذلك كله، ليس هنالك مواعيد محددة ومعروفة مسبقاً، فنهاية اللعبة قد تحين في أي وقت. The Alter Ego Effect  

 

5. الجانب الروحاني– عندما تصلي أو تتأمل، فإنك في خلوة خاصة مع ذاتك الداخلية. نعم، إنه خيار شخصي محض؛ ولكننا جميعاً بحاجة إلى ذلك النوع من التواصل، بغض النظر عن خلفيتنا أو ثقافتنا الدينية. نحتاج جميعاً إلى وقت للتفكر أو التأمل أو التواصل أو الصلاة. عليك أن تعرف من أنت وماذا تريد، لكن فلتحافظ على إيقاعك المناسب. ليس الأمر مجرد أدائك الصلاة خمس مرات في اليوم على سبيل المثال، فتلك هي الممارسة الفعلية على أرض الواقع، بل إن ما تحتاجه هو الإبحار في أعماق روحك لمعرفة من تقف أمامه في كل مرة من تلك المرات الخمس وكيف عليك أن تقف أمامه وماذا عليك أن تقول له تعبيراً عن امتنانك لما تملكه من نِعَم. إنه ذلك الحديث الشريف الشهير لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال لبلال طالباً منه الدعوة إلى الصلاة: “أرحنا بها يا بلال”، ما يعني بطريقة ما: ادعُ إلى الصلاة لكي نقف أمام الله ونتواضع بوجوده ونشعر بالسلام والسكينة في الصلاة له والتضرّع إليه.  

 

أما الملاحظة الأخيرة لنفسي وأنا في عمر الثلاثين فهي كالآتي: فكر بمرثاتك (وهي عادة في الثقافة الغربية وتكون على شكل كلمات قليلة مكتوبة تقال في ذكر محاسن الميت في جنازته أمام الحضور)؛ وكذلك فكر بأكثر الأشخاص أهمية بالنسبة لك وبماذا سيقولون عنك بعد رحيلك، أي بأهلك وشريك حياتك وأولادك وأحفادك وأصدقائك المقربين وزملائك في العمل. تخيل ما تريد من كل واحد منهم أن يقوله عنك بُعيد وفاتك وكيف سيصفونك كإنسان وماذا سيقولون عن علاقتهم بك. دوّن كيف ترغب أن يصفك كل واحد من أولئك الأحبة والأصدقاء؛ فتلك الوثيقة إنما تصف حياتك المثالية من وجهة نظرك، تلك الحياة التي ترغب في أن يتذكرك الناس بها. وطالما أنك لم تمت بعد، فلتأخذ مرثاتك وتجعلها مرشداً لك في حياتك، ومنارة تُهديك وتُنير دربك بما تبقّى لك من سنين في هذه الدنيا. 

مدونات أخرى

الخمسون الكبرى

  في أبريل، أتممت ربيعي الخمسين، أو “الخمسين الكبيرة”، على حد تعبير

تحدث معي