ماذا لو حلّقتَ عالياً؟

“تكمن المشكلة في ظنّك أنه لا يزال أمامك متسع من الوقت”. لنتأمل معاً هذه العبارة الشهيرة لوهلة من الزمن. نؤجل نحن البشر اتخاذ الكثير من القرارات في حياتنا لأننا نظن أنه لا يزال أمامنا متسع من الوقت. ففي ظننا هذا، نعتقد أنه لا زال هناك وقت للقيام بما نعتبره شغفنا الحقيقي، أو أنه لا زال أمامنا وقت للقيام بتلك الرحلة مع العائلة، أو أن هناك فسحة من الزمن لإتمام ذلك المشروع الشخصي الذي نتوق لإكماله. نظن أيضاً أنه لا زال في جعبتنا ما يكفي من الزمن لدخول تلك العلاقة التي لطالما كنا خائفين من الالتزام الذي تأتي معه، أو نظن أنه لا زال هناك متسع من الوقت للسعي لتحقيق أحلامنا الحقيقية. لكننا بدل أن نتخذ قرارات بشأن مثل هذه الأمور، نكتفي بتأجيلها على أمل أن يحين الوقت المناسب لذلك. لكن هذا التأجيل، في حقيقة الأمر، ما هو إلا أسلوب للهرب من مواجهة احتمال الفشل في تلك الأمور، لذلك نعلّقها ونلقي اللوم على عاتق الزمان واللحظة المناسبة، ففي حال لم نتمكن من تحقيقها أو لم تحصل، نبرر لأنفسنا أنه لم يحن وقتها بعد، وهذا كل ما هنالك، حسب زعمنا طبعاً.

لكن دعني أخبرك هذه الحقيقة، التي لربما خمنتها، وهي أنه ليس هناك ما يسمى باللحظة المناسبة أو المثالية، وما من توقيت نموذجي لاتخاذ قرار بإنجاز ما تود إنجازه حقاً. ذلك أن كل لحظة، وكل ثانية تمضي، تعدّ لحظة مناسبة وثانية ممتازة بقدر ما تستطيع الاستفادة منها واستغلالها، إذاً احرص على اغتنام كل لحظة واسعَ حثيثاً نحو ما تريده، الآن لا لاحقاً وهذه اللحظة لا ذلك الوقت المناسب الذي قد يأتي. نتجاهل نحن البشر غالب الوقت حقيقةَ أننا مخلوقات فانية تضمحلّ قواها بمرور الزمن، وأن الحياة التي تعيشها أنت اليوم هي الحياة الوحيدة التي بين يديك، بل وهي الفرصة الوحيدة التي لديك أصلاً، فنحن لسنا في لعبة فيديو، لدينا فقط حياة واحدة لا فرص إضافية فيها، لا مجال لإعادتها، ولسنا في مسرح كي نعتبر النسخة الأولى من العرض مجرد بروفة، والأهم من ذلك أن كلمة “النهاية” فيها قد تظهر على شاشة حياتنا في أي لحظة. في هذا السياق، تحدث اليوتيوبر محمد نصار عن مفهوم مهم سماه “تأجيل الحياة”، وذكّرنا بأنه لا ينبغي علينا إطلاقاً أن نؤجل العيش اليوم بحجة أننا سنحيا في غدٍ آخر مجهول تماماً لدينا. من ناحية أخرى، ولأن الحياة قصيرة، لا بد ألا نغفل عن حقيقة وقوع إلتزامات ومسؤوليات حياتية على عاتقنا، لذلك نحتاج إلى ترتيبها وفق الأولوية كي نعطي لكل ذي حق حقه. من هنا ندرك ضرورة تشغيل برنامج إدارة مخاطر في خلفية سطح مكتب ذهنك (بافتراض أنه حاسوب) كل مرّة تود فيها إنجاز أمر ما في الحياة. لاحظ أني قلت “إدارة المخاطر” لا “الخوف من الفشل” لذلك لا تخلط بينهما لأنهما ليسا مترادفان.

لتوضيح المفهوم، نشير إلى أنه في فيلم “هناك عالياً في الجو” (Up in the air)، نرى شخصية البطل راين، الذي أدى دوره الممثل جورج كلوني، مدمن عمل لا تفارقه حقيبة السفر، يعيش بين مدينة وأخرى. يتمحور عمل راين في “تقليص أحجام الشركات”، المصطلح الذي يعني أنه مضطر لتسريح الموظفين. يجلس راين في أحد مشاهد الفيلم، في صحبة مساعدته مع أحد الأشخاص الذين سيفصلونهم عن العمل، اسم ذلك الشخص بوب، وبعد نقاش حادّ مع بوب، يقول له راين “هل تعرف يا بوب لماذا يحبّ الأطفال مشاهير الرياضة؟ إنهم يحبونهم لأنهم أشخاص يركضون ‘فعلياً’ وراء أحلامهم”. لاحقاً، تبين أن بوب له شغف بالطهي على الطريقة الفرنسية، لكن بوب علّق هذا الشغف طوال حياته بسبب عمله في الشركة، هكذا ذكّره راين أن فصله من العمل، ومع أنه شيء محزن، إلا أنه منحة في قلب محنة، إذ هو فرصة لتحقيق شغفه وشغل الوظيفة التي طالما انتظرها بوب.

مع ذلك، لا ينبغي التهور فقبل كل شيء عليك أن تكون مدركاً تمام الإدراك لرسالتك في الحياة، وتعرف عن يقين أحلامك وأهدافك التي تود السعي لها وتحقيقها على هذه الأرض. لا تقلق بشأن سرعة تحقق تلك الأهداف أو مقدار التقدم المُحرز فيها ما دمت مستمراً في السعي ورائها، متحمساً في رحلتك ومتخذاً الأسباب والخطوات العملية التي تفضي بك لإتمامها. بهذا الصدد، سمعتُ منذ بضعة أشهر، حلقة من بودكاست يتحدث عن اكتشاف قدرات المرء ورسالته في الحياة، والحواجز التي ننشئها بشكل لا واعي لمنع أنفسنا من السعي لتحقيق أهدافنا وتطلعاتنا، تحدث البودكاست عن مجموعة من التمارين أعدها بعناية ودراسة خبراء في المجال بإمكانها حقاً مساعدتك على اكتشاف رسالتك في الحياة. تتمثل الفكرة في “صندوق أدوات اكتشاف الذات” تشتريه، وتمضي قدماً في اجتياز مراحل ذلك التمرين، الذي يستغرق إتمامه عشر ساعات من الزمن على الأقل. عندما اشتريت ذلك الصندوق وشرعت في اجتياز المراحل، اكتشفت أشياء عن نفسي لم تخطر لي على بال من قبل، أو على الأقل أشياء لم أرها من زاوية نظر مختلفة من قبل أبداً. سيساعدك هذا الصندوق على اكتشاف مجموعة متنوعة من المشاعر والأحلام والأمنيات والأهداف والرغبات التي لطالما كانت في وجدانك، ولكنك، ولسبب من الأسباب، قمعتها أو دفنتها عميقاً داخل نفسك. سيزيح الصندوق الستار عن أشخاص يشكلون جزءاً من حياتك الآن، لكن مكانهم ليس معك أبداً، كما سيشير الصندوق إلى أشخاص آخرين ينبغي أن يكونوا معك الآن لكنهم ليسوا كذلك. من ناحية أخرى، سيقدم لك التمرين الخطوات العملية اللازمة لتحقق أحلامك الخاصة. أما الأهم من ذلك كله، على الأقل بالنسبة لي، فهو أن الصندوق سيخبرك بأن الحياة أحلى مع الرفقة، وأن الجميع، جميع البشر، بحاجة إلى رفيق يسندهم. ذلك أن شريك الحياة يجعلك قادراً على تحمّل لحظات الضعف والهزيمة في الحياة، ويجعل لحظات النصر والنجاح أكثر بهجةً وفرحاً.

وأختم المقال بنصحك ألا تتوقف أبداً عن السعي حثيثاً لتحقيق أحلامك، وألا تتخذ من المخاطر التي لا تخلو منها الحياة حجة للبقاء فيما أنت فيه الآن، ذلك أنه إن فعلت ذلك فسوف تصبح الحياة مضيعة للوقت، ولن يسعك إلا الندم لاحقاً على توانيك عن فعل أمور مهمة بالنسبة لك لكن أوانها فات. استثمر في الأشخاص الذين تحلو معهم الحياة، واستثمر أيضاً في الشغف الذي تحلم بتحقيقه يوماً ما، ولا تقل في نفسك ‘لكن الأمر قد لا يستحق’ فمعرفة ذلك يقيناً غير ممكنة إلا مع التجربة. الممتع في الأمر أنه لا شعور مبهجاً يعلو على مشاعر الإنجاز المذهلة التي ستجتاح كيانك عندما تدرك أنك كنت محقاً باتخاذ تلك الخطوات حتى لو كانت مخاطرة قد تربح أو تخسر. فقد تفصح عن مشاعرك التي تكنها لأحد الأشخاص، ويتبين لك أنه لطالما حمل لك في وجدانه نفس الشعور، أو تبدأ مشروعاً لتدرك بعدها أنه هذا هو بالضبط غرضك من العيش وما تريد فعله طيلة حياتك. صحيح أن أسوأ الاحتمالات أن تسفر النتيجة بعكس ما تريده، لكن هذا الأمر لا بأس به أيضاً، لأنه من الأيسر عليك -وصدقني في هذا- العيش مع “لقد فعلت لكن للأسف” من أن تعيش على “يا تُرى ماذا لو فعلت ذلك!”

وكما صاغتها إرين هانسون بشكل جميل في إحدى قصائدها، معبرة عن ذلك في حوار مع يرقة جاهزة لتتحول إلى فراشة، لكنها تخشى جداً أن تفشل في ذلك التحول وتسقط، “انظر إلى نفسك، مع أن هناك حريّة باتساع السماء تنتظرك هناك، حيثُ يهبّ النسيم العليل، ومع ذلك تنكمش على نفسك وتتساءل ‘ماذا لو فشلتُ’، لكن يا حبيبي تأمل معي، ‘ماذا لو حلّقتَ عالياً في الجو؟'”.

* الصندوق تعدّه شركة VISOUL، واسمه برنامج مرآة الذات  https://visoul.com/discount/Rakan

مدونات أخرى

الخمسون الكبرى

  في أبريل، أتممت ربيعي الخمسين، أو “الخمسين الكبيرة”، على حد تعبير

تحدث معي