كن ممتناً

“لو أن أحدهم منحك كتاباً يروي قصة حياتك.. فهل ستقرأه حتى نهايته؟”

يخطر لي هذا السؤال كلما قرأت كتاباً مشوقاً أو شاهدت فيلماً ممتعاً أو برنامجاً وثائقياً محوره قصة نجاح. هل سأجد قراءة كتاب عن حياتي ممتعاً فعلاً؟

استيقظت هذا الصباح، بعد شروق شمس أول أيام 2020، الذي يتصادف أن يكون كذلك أول أيام عقد جديد، وشرعت في كتابة هذه المدونة بينما أحتسي قهوة الصباح. وللمفارقة، كنت قد شاهدت ليلة أمس مقطعاً من مسلسل “فريندز”، يعود إلى العام 2002، وفيه كان “تشاندلر” يسخر من “روس” بشأن غفوات ابنته الوليدة، ويحدثه عما يمكن أن تفعله عندما تبلغ الثامنة عشرة من عمرها في العام 2020. شعرت وكأن هذه الحلقة من المسلسل كانت منذ فترة قريبة جدا وليست منذ ثمانية عشر عاما.

كان العام 2019 جيدا بالنسبة لي، فقد خضت خلاله رحلة مثيرة استكشفت فيها الكثير عن نفسي، وهي رحلة لا تزال مستمرة، وكانت قد بدأت منذ ديسمبر 2018 خلا رحلة فريق العمل السنوية، ومن ثم إكمال برنامج “ViSoul” في أبريل، وحتى إتمام برنامج “تطوير القادة” الذي نظمته كلية هارفارد للأعمال على مدار أسبوع في بوسطن خلال ديسمبر الماضي. وجدت في برنامج هارفارد اكتشافاً جديداً حقيقياً منحني شعوراً قوياً بالغاية والهدف، وقبل ذلك الثقة في أن كل ما قمته به من تغيير في العام 2019 كان في الوقت المناسب. وأنصح بهذا البرنامج كل من يرغب في خوض مثل هذه الرحلة، فحتماً سيجد في نفسه بعد إتمام البرنامج ذلك الشعور القوي بقبول ذاته والوعي بجوانبها؛ وهما في رأيي ركيزتا قناعة المرء ورضاه عن حياته.

وحتى تصل إلى هاتين الركيزتين، عليك بالبدء في التعرف على ذاتك، وصدقني حينما أقول لك أن الكلام في هذا الصدد أهون من الفعل، ولكنه قد يكون أهم شيء تقوم به في حياتك. ذات يوم، قال “بنجامين فرانكلين”: “هناك ثلاثة أشياء قاسية (صعبة).. الفولاذ والألماس وأن تعرف ذاتك”. والمقصود من معرفة الذات أن تعرف هدفك في الحياة، والقيم والمبادئ التي تتبناها في كل يوم، والحافز والشغف الذي يجعلك تحيا، ويجعل لحياتك في النهاية معنى.. وأعتقد أن هذا هو كل ما يطمح إليه إنسان.

في عديد من الحالات، تغمرنا الحياة بتفاصيلها ومشاكلها وهمومها إلى حد أننا نعجز عن التمهل حتى نتبين ما إذا كنا على الدرب الصحيح أم لا، وإن كان هذا العمل الذي نحب أن نعمله أم لا، أو أن هذه هي الحياة التي نود أن نحياها أم لا. ولكنك ما أن تتوقف للحظة وتعي خلالها ذاتك وتعرف فيها من أنت بحق وما هي غايتك من الحياة، فعندئذ تتثبت من الدرب الصحيح، فإن لم تكن عليه فأنت تعرف ما يتوجب عليك القيام به.

لتوّك، وأن تمتلك شجاعة الفعل، وهذا صعب، لأنه يستلزم خروجك من منطقة الراحة التي أقمتها لنفسك. التغيير مخيف دوماً، ولكن أتدري ما هو أسوأ منه؟ أن ترقب الحياة وهي تمر بينما أنت في مكانك، تجتر مرارة الندم على عدم إقدامك على أي خطوة كنت ترغبها، بسبب الخوف من التغيير مثلا.

في فيلم وأجد أن كتاب “بل جورج” (اعرف بوصلتك) Discover your True North من بين أهم ما صدر في هذا الموضوع. فهو كتاب يصحبك عبر رحلات العديد من الأشخاص الناجحين، وكيف كانت متاعبهم هي الحافز الذي أوقد بداخلهم جذوة السعي إلى الاتجاه الصحيح. وكما يقول الكاتب، أن تكون قائداً يعني أن تكون قادراً على قيادة نفسك أولاً قبل أن تقود الآخرين، وهو ما يتطلب منك أن تعرف هدفك في الحياة، وأنك تتقبل ذاتك، والأهم من ذلك كله، أن تكون مرتاحًا لحقيقة أنك عرضة لأي شيء.

عند هذه النقطة، أود أن أشارككم بأهم ما تعلمته شخصيا في العام 2019:

    1. الغاية: لا يعد تبني بيان غاية وغرض ما بمجرد ممارسة بديهية تقوم بها. فهو ليس بيانًا يوضح تطلعات يصعب الوصول إليها كما أنه ليس مماثلاً ببيان مهمة أو رسالة تصدره شركة، بل يجب أن يكون واقعياً حقيقيًا ويجب أن يعبر عنك أنت. فهناك دائماً “أنت” الذي تريد أن تكونه، و”أنت” الذي لا تستطيع إلا أن تكونه، وغابتك يجب أن تكون في مكان ما بين الإثنين. يخبرنا علماء النفس أن القلق يعترينا دوماً في عقلنا الباطن بشأن نظرة الآخرين لنا، أمثر من الطريقة التي نرى بها أنفسنا، وهو أمر يستدعي التفكر حقا. وفي هذا تحقيق لمقولة شهيرة: “أنا لست الشخص الذي أعتقد أنه أنا. أنا لست الشخص الذي تعتقد أنت أنه أنا. أنا الشخص الذي أعتقد أنك تعتقد بأنه أنا”.
    2. القدرة على إظهار المشاعر: إن الصفة الأهم من بين الصفات التي ينبغي للشخص الناجح أن يتمتع بها هي القابلية على إظهار المشاعر، وأعني بذلك القدرة على إظهار الشعور بالضعف حين نكون في موقف ضعف، وتقبله والتعامل معه، أو إمكانية إظهار مشاعر الحب والسعادة والتعامل معها، أو مثلا مشاعر الهزبمة والسقوط وتقبلها والعمل على النهوض مرة أخرى لتجاوز الموقف. وهي صفة نفتقدها منذ أيام طفولتنا، وللأسف فإننا نبتعد عنها كلما تقدمنا في العمر. تتيح لك المعرفة بنقاط ضعفك أن تكون صادقاً مع نفسك ومع الآخرين، وأن تكون منفتحًا على مشاعرك، وأن تعترف بالخطأ وأن تدرك مواطن الضعف وتعزز نقاط قوتك. وفي عصرنا، نفتقر إلى شعور التعاطف، وهذا لأننا نستاء من ضعفنا، ومن حتمية مواجهة حقيقة عواطفنا. ولكننا لا نعرف أن هذا الضعف هو مهد جميع المشاعر الجميلة التي نسعى جاهدين لمعايشتها؛ مثل الحب والانتماء والفرحة، كما ذكرت “برين براون” عدة مرات في محاضراتها على TED.
    3. الامتنان: إن امتنانك للأشياء الصغيرة التي تتمتع بها في حياتك بمثابة أكبر محفز لإفراز الدوبامين؛ هرمون السعادة في جسدك. ننشغل بمشاكلنا الحياتية في العمل وفي المنزل فننسى أن نثمن تلك الأشياء الصغيرة. قالت زميلة في برنامج هارفارد أنها صكت كلمة جديدة في الإنجليزية Gratitudist “ممتن” وسجلتها ملكيةً فكرية، لأنها وجدت أنها كلمة مهمة ولكنها لا تحظى بالاهتمام أو التقدير الكافي. لدينا “المتفائل و”المتشائم”، فما المانع في أن يكون لدينا “الممتن”؛ الذي يعبر دوماً عن امتنانه لما بين يديه. جرب أن تقوم في كل ليلة، قبيل أن تخلد إلى النوم، بكتابة ثلاثة أشياء تشعر بالامتنان لها في ذلك اليوم. دوّن ذلك في دفتر تضعه إلى جوار الفراش أو في مفكرة هاتفك. قد يكون شيئاً بسيطًا؛ مثل أن “قهوة هذا الصباح كانت ممتعة للغاية”. ولسوف تلاحظ في غضون أسبوع أو نحو ذلك أن حالتك المزاجية تغيرت إلى حالة إيجابية مبهجة، وأنك صرت قادراً على إغفال السيء في حياتك وألا تفسح له المجال كي يهيمن عليها. وإليك فكرة أخرى. هل جربت أن تعرب لأحدهم عن مدى امتنانك لكونه في حياتك؛ والديك أو أطفالك أو شريك حياتك؟ جرب أن تكتب له خطاب شكر، ولكن لا تسلمه له أو تطلب منه قراءته، بل اقرأه عليه بصوت عالٍ. لن تتخيل مدى قوة تأثير هذا على كليكما.

وعليّ أن أحذرك.. فمع الوقت، وبينما تسعى إلى التمرس على ما ذكرته لك هنا، قد تشعر وكأنك صرت أكثر أنانية وأنك لم تعد تفكر إلا فيما يناسبك أنت أولاً، حتى ولو كنت من النوع المعطاء الذي يهتم للآخرين؛ حيث أن ما تحدثنا عنه هنا سيجعلك تعطي بقدر ما تأخذ. ولا بأس في ذلك، بل هو أمر طبيعي ومرغوب، فأنت عندما تهتم لنفسك أولا ستتمكن من الاهتمام بمن تحب بدرجة أفضل.

أتركك مع مشهد من فيلم Life Itself “الحياة ذاتها”؛ تخاطب فيه الأم المحتضرة “إيزابيل دياز”، التي قامت بدورها “لايا كوستا”، ابنها، فتقول له: “هذه هي الحياة.. هذا ما تفعله بك.. تقهرك راكعاً على ركبتيك.. وتسقط بك إلى هاوية لا تتخيل أنك قد تصلها.. ولكنك إن نهضت مجدداً ومضيت قدماً.. ولو قليلاً.. فعندئذ تجد المحبة”. كانت تحاول إقناعه بأن يجعل من متاعبه ومخاوفه وأحزانه لبنات يبني بها طابقاً آخر في بناء حياته، وأن يبتهج بالحياة، وأن يعشها بشتى جوانبها، ساعياً وراء أحلامه.

أتمنى للجميع عاماً جديداً سعيداً.. وأن يجد كل منّا غايته.. ويمتلك شجاعة السعي إليها.

حينما تبرم مثل هذه الاتفاقيات مع نفسك، وتشرع في تطبيقها تدريجياً في حياتك اليومية، ستندهش فعلاً لمدى الهدوء والطمأنينة والسلام الداخلي الذي ستنعم به. ستنعم ببال هادئ وتشعر بأريحية بالغة، ولن يشغل خاطرك شيء، وستشعر أن عقلك وجسدك وروحك في تناغم ووئام. ولكن للتنبيه، فالحديث عن هذه الاتفاقيات أسهل من تطبيقها، لذلك احزم أمرك وكن جاداً والتزم بتحقيقها، لتصل إلى هذا النعيم الدنيوي. الأهم من ذلك، أنه لابد أن تكون مستعداً للتخلي عن بعض العادات والأفكار، أو الاتفاقيات إن صح التعبير، التي كنت تنتهجها في حياتك سابقاً، لا سيما تلك الظنون والأفكار التي نشأت على الاعتقاد بأنها حقائق لا مناص منها، في حين أنها ليست كذلك. إن تلك المعتقدات والأفكار الخاطئة ما هي إلا عقبات وعراقيل في طريقك نحو المحاولة والخروج من منطقة الراحة.

والوصية الأخيرة المهمة جداً التي أود أن أدلي بها هنا هي أن التزامك بالاتفاقيات أعلاه مع نفسك لن يمنعك أن تتحلى بالتنافسية والشغف بشأن أهدافك في الحياة، بل على العكس من ذلك، ستتيح لك الالتزامات أعلاه أن تركز أكثر على تحقيق أهدافك المرجوة وأحلامك الطموحة دون أن تعاني من التشتت الناجم عن الطاقة السلبية التي تؤثر على مضيك قدماً.

لتنعم إذاً بالطمأنينة والسلام.

مدونات أخرى

الخمسون الكبرى

  في أبريل، أتممت ربيعي الخمسين، أو “الخمسين الكبيرة”، على حد تعبير

تحدث معي