عندما كنت في المرحلة الثانوية في المدرسة، كنت أتجنب رفع يدي أو طرح أي سؤال أمام بقية الطلاب، وهذا لما كان يعتريني وقتذاك من شعور بالخجل وكأن الجميع ينظر إليّ مترقباً خطأي. عليّ هنا أن أخبركم بأني كنت من بين المتفوقين في دراستي الثانوية، الأمر فقط أنني كنت أخجل من الوقوف والتحدث أمام بقية طلاب الفصل. وقد لازمتني هذه الحالة حتى سنتي الأولى في الجامعة بالولايات المتحدة.
رؤيتي لزملائي في الجامعة وكيفية مشاركتهم الفاعلة في المحاضرات جعلني أنزعج من نفسي جدا، وقررت أن أتغير. وهكذا، انخرطت في القراءة في مواضيع بناء الثقة بالنفس واكتساب مهارات الخطابة والإلقاء. عقب ذلك، اشتركت في أحد الأندية الطلابية الجامعية وأصبحت حاضراً بقوة في جميع أنشطة النادي، وفي غضون عام رشحت نفسي لرئاسة النادي وفزت بالمنصب لعامين متتاليين. ولم يقتصر الأمر على ذلك وحسب، بل اشتركت في نادٍ آخر، وفزت برئاسته، لأدير شؤون ناديين طلابيين في وقت واحد. وبطيعة الحال، صرت معتاداً بحكم مهامي على إلقاء الكلمات والمحاضرات، أمام جمهور تنوعت أطيافه. ومنذ ذلك الحين، تحول التحدث أمام الغير إلى مصدر طاقة حماس وإلهام بالنسبة لي.
التغيير يطرأ في حياتنا بطريقتين؛ إما أن ندرك حقيقة وضعنا وما نحن عليه ومن ثم نكتشف الحاجة إلى التغيير وضرورة النضج باختيارنا، أو أن نضطر إلى ذلك قسراً بعد أن نجد أنفسنا عالقين في المعاناة، ولا مخرج سوى أن نتغير. وبرغم أن الخيار الأول هو الأمثل، إلا أنه يستعصي على التنفيذ في كثير من الحالات، وهذا لأن من طبع البشر ألا يصلح الشيء طالما أنه لم يتحطم تماماً بعد.
أي أن المرء يفضل المكوث في منطقة مريحة اعتادها ويعرفها على أن يبادر باقتحام تخوم مجهولة لم يجربها من قبل. وبالتالي، فإن الخيار الثاني هو أن تُجبر على التغيير، وهو الخيار الذي أجده أكثر شيوعًا بين الناس. وعندما لا يكون لدينا من بُد سوى التغيير، يتبين لنا أن التحدي هو أن ذلك التغيير يتطلب إرادة قوية ووعيًا ذاتيًا كافياً لتحقيق التغيير والنضج. وهكذا، يرتاح البعض إلى لعب دور الضحية والركون إلى ما هو عليه بدلاً من أن يخطو على الدرب الأصعب المتمثل في حمل ذاته على التغير وخوض تجربة النضج.
مرت عليّ أوقات قررت فيها التغيير القسري كي أنجو من براثن تلك الهوة الفظيعة، ولكن الأوقات الأهم هي تلك التي قررت فيها أن أنضج باختياري، وهي أوقات طي صفحة من كتاب حياتي والبدء في صفحة جديدة. وسواءً كان هذا الخيار أو ذاك، فإنني أؤكد أن لا شعور أحلى من شعورك بالنضج ما أن تجني ثماره؛ إنه إحساس مثير بالإنجاز وتحقيق الذات والرغبة في تحقيق المزيد ثم المزيد. وانتبه؛ سوف يتوجب عليك التحلي بالكثير من الانضباط والصبر للوصول إلى هذا المستوى، حيث أنها مهمة عسيرة لا يمكنك أن تركن فيها إلى مجرد الشرارة التي أشعلت في ذاتك هذه الرغبة في البداية.
وكلما تعثرت أو ضلت خطاي على الدرب، كلما رغبت في الإحاطة بأسباب ما يعتريني، وسبل الفكاك منه. وقد يبدو كلامي نظريًا وعلميًا، ولكنه كان بالنسبة لي الطريقة الوحيدة لسبر أغوار مشاعري. فعندما أواجه مشكلة، أتوقف وأتأملها وأحاول تحليلها بتدوين اليوميات والكتابة عموماً، ثم أقرأ وأبحث في المشكلة وأطبق عليها ما تعلمته. وبالتوازي مع هذا، أركز على سيكولوجية الموقف لدرايتي بأن العواطف تتحكم دوماً في مزاجنا العام، وعلمي أن عليّ حتى أنضج أن أكون في مزاج جيد وأن أروض مشاعري.
يتحدث الكاتب والمتحدث الأمريكي توني روبنز عن مفهوم إحداث التغيير الكبير في الحياة، أو ما يسميه “الاختراق” الذي يشعل رغبتك في التغيير، وهي تلك اللحظة التي يتغير فيها كل شيء في حياتك. وهو يتغير لأنك الآن تجد ما بدا لك مستحيلًا وقد أضحى ممكناً وامتلكت دافعاً داخلياً قوياً للعمل عليه. وكثير منا يبقى أسير الحزن، أو التوق إلى نيل قبول الآخر، أو سجيناً للغضب، أو أي شعور آخر يشل تفكيرنا وحياتنا ويضعنا في طريق مسدود، إلى أن يأتي يوم، أو لحظة، تصل بنا إلى الحافة، حيث ندرك أننا أمام الخيار المصيري: إما الآن أو لا إلى الأبد، ويصبح فعل التغيير مسألة حياة. ويقترح توني أن نجاح لحظة التغيير يقوم على امتلاكك ما يلي:
-
- رغبة عارمة في تحقيق النجاح:يجب أن تجد في نفسك الطاقة والدافع والتوق إلى مثل هذا التغيير والنجاح.
- قليل من اللوم، مزيد من العمل:اعلم أن أعلى مستوى من النضج هو ذاك الذي نتحمل فيه المسؤولية عن كافة شؤون ومجريات حياتنا. ومن ثم، يتحقق التغيير عندما نتخلى عن دور الضحية وننهض بالمسؤولية.
- إما الموارد أو سعة الحيلة:إن الافتراض القائل بأن المال يأتي من المال والنجاح يأتي من النجاح افتراض خاطئ. لا تحتاج إلى موارد بل أن تكون واسع الحيلة بما فيه الكفاية.
في العام 2001، عرضت دور السينما فيلماً بديعاً مثير للمشاعر بأطيافها، هو فيلم عقل جميل (A Beautiful Mind)، حيث لعب راسل كرو دور بروفيسور ناش عالم الرياضيات النابغة، المصاب بالفصام، والذي حاز في العام 1994 على جائزة نوبل في الاقتصاد.
ويحكي الفيلم القصة الحقيقية لحياة بروفيسور ناش، الذي عاش لسنوات عديدة مع هذا المرض دون أن يدري، واعتقد أن كل الأشخاص والأماكن التي التقى بها وذهب إليها كانت حقيقية، ليدرك بعد سنوات أنه عاش حياة من وهم لم تكن إلا في عقله. واستغرق الأمر منه سنوات حتى تقبل حالته ووصل إلى تلك اللحظة المصيرية التي قرر فيها أن يتغير.
وكانت شرارة انطلاقته في هيئة زوجة محبة، لولاها لما كان. لقد قدر لها أن تمثل “الاختراق” الذي جعله يتحكم في مرضه ويفوز بالجائزة الأشهر في العالم. قال ناش في كلمته أمام لجنة جائزة نوبل: “لقد آمنت دوماً بالأرقام وأن المعادلات والمنطق هما سبيل العقل والحكمة. ولكنني أتساءل بعد فناء عمر طويل في تلك المساعي؛ ما هو المنطق بحق؟ من الذي يحسم العقل؟ وأخذني بحثي إلى ما هو ملموس، وما هو ميتافيزيقي، وإلى الوهم، ومن ثم الارتداد في نفس الدائرة. وأقول لكم أنني حققت أهم كشف في مسيرتي، وأبرز اكتشاف في حياتي. إننا لن نجدد المنطق إلا في أسباب الحب الغامضة. فأنا هنا الليلة بفضلك أنتِ. ولولاك ما كنت أنا. فأنتِ كل أسبابي”.
لذلك أقول لك: ابحث عن أسبابك، فتش عن إلهامك، حدد ما تتوق إليه، ومن ثم انطلق لتحققه؛ فهنالك جوهر حياتك ومغزاها.