لا تهدر أزمة جيدة

منذ عام، كتبت مدونة عنوانها “ماذا لو حلقت عاليا”، وصدّرت المدونة بمقولة هي “تكمن المشكلة في ظنّك أنه لا يزال أمامك متسع من الوقت “، وتحدثت عن أننا نميل إلى تأجيل وتسويف اتخاذ العديد من القرارات في حياتنا، انتظاراً للحظة المناسبة، والتي لا تأتي أبداً، ولكننا ننتظرها برغم ذلك، وبالتالي فإننا لا نجرؤ على تحريك المياه الراكدة في حياتنا أو مواجهة أحلامنا، خشية أن نسعى فنفشل. فنمني النفس بأنه ما أن تهدأ وتيرة الأمور أو إذا ما أخذت إجازة لبضعة أيام أو إذا ما انتهيت من هذا المشروع الهام، أو حققت ذاك الهدف في العمل، ما أن يحدث هذا، عندئذ تكون الفرصة سانحة لتقييم حياتنا، برغم أننا وفي طيات أنفسنا نعلم أننا لن نجد الوقت لذلك، إلا هذه الأيام، حيث أن عذر عدم وجود الوقت لم يعد مقنعا.

واليوم، وبعد أن غابت سمات الحياة التي عهدناها حتى إشعار آخر، تخلى معظمنا عن إيقاعها السريع وترجلنا إلى أرض الواقع، وبدأنا في إعادة اكتشاف كل ما يحيط بنا، ربما لأول مرة؛ وبدأنا في تلمس علاقاتنا الحقيقية بأفراد أسرتنا وأصدقائنا وكل معارفنا، وكأننا نتعرف إلى بيوتنا، وصغارنا، وحياتنا الشخصية وحكاياتنا لأول مرة، ومنا من وجد سلواه في هوايات قديمة يحييها، أو فنونه في الطبخ، ومنا من استراح إلى فكرة الاسترخاء التام والمكوث في المنزل من دون ضرورة القيام بشيء ذي بال، بعد أن صارت هذه متعة خالصة لا يشوبها إحساس بالذنب. كما أدركنا أن الأرض لم تتوقف عن الدوران وأن الحياة سوف تستمر حتى من دون ذلك الإيقاع الصاخب، بعد أن عرفنا أن التأني والتمهل والتقاط الأنفاس ليس بالأمر السيء، بل هناك كثير من المحاسن في أن “نتوقف لشم رائحة الأزهار” كما تقول أغنية ماك ديفيز الشهيرة في سبعينيات القرن الماضي. وعرف أغلبنا أنه من الممكن الجمع بين الاهتمام التام بالعمل وحضور اجتماعات افتراضية من دون الاستغناء عن دفء العائلة والحاجة إلى الابتعاد عنها، وكذلك اكتشفنا أن اليوم الواحد يتسع للعمل ورفقة العائلة ومشاهدة التلفزيون وقراءة كتاب وممارسة هواية وكذلك أداء الرياضة إن رغبنا. كل ذلك أصبح ممكنا في يوم واحد. وهنا اسمحوا لي أن أسأل، ألا يبدو الوصف أعلاه حلا للمعادلة الصعبة في تحقيق أفضل للتوازن بين العمل  والحياة؟

ما الذي تغير إذن؟  في رأيي هو أننا أجبرنا ذهنياً على أن نتغير، وأفسح العقل والمنطق الذي اعتدناه الطريق أمام فطرتنا وغريزتنا التي دفعتنا إلى العمل على إثبات أنفسنا والتأكيد على قدرتنا أن نحيا حياة طبيعية، نسبياً، بالرغم من هذه العزلة والحظر الصحي القسري. وعلاوة على ذلك، فلا ننسى أننا كنا نقضي في المتوسط ساعتين يومياً في التنقل من مكان إلى آخر، في سياراتنا أو في وسائل النقل العام، وهكذا أدركنا أن لدينا الآن ساعات إضافية في أيامنا وبوسعنا استغلالها. ما أقوله بإيجاز هو أن معظمنا تمكن من إيجاد اتزان في خضم كل هذا الحنون.  ولكن للتوضيح، فأنا لا أنفي أننا قد سئمنا، بدرجات متفاوتة، من البقاء في المنزل وعدم القدرة على الخروج ومعايشة على العالم مجدداً في المطاعم أو المقاهي أو الانخراط في أي شكل من أشكال التجمعات البشرية، أو مجرد الذهاب لمكاتبنا والتقاء زملائنا في العمل. ناهيك عن التأثير المالي لهذه الأزمة على العديد من الشركات وخسارة أعداد لا يستهان بها لوظائفها، ولكن هذا جانب يختص به واضعي السياسات والاقتصاديين ويتناوله الخبراء ليلا ونهارا.

ربما أضحت الحياة كما نعرفها بعيدة عنا اليوم، ولعدة أشهر مقبلة على الأقل، وسوف نضطر للتعامل مع معايير اجتماعية جديدة نحتاج إلى التكيف معها، بدايةً من التباعد الاجتماعي قسراً ومروراً بمحدودية التفاعلات الاجتماعية التقليدية والمزيد من مؤتمرات الفيديو الافتراضية بديلاً عن التجمعات العائلية والتجمعات العائلية الصغيرة عوضاً عن الأنشطة الاجتماعية الكبيرة. واكتشف الكثير منا قيمة وجودة الوقت الذي يقضيه في علاقات حقيقية مع العائلة والأحباء مقارنة بما كان يخصصه من وقت يهدره مع أصدقاء افتراضيين قد لا يلتقي بهم أبداً. وقد يتبين لنا أن المصافحة ربما تصبح سلوكاً من الماضي وأن التحية الشفوية كافية وحسب.

أستحضر هنا مشهد من فيلم “Braveheart” الشهير، في مشهد زيارة الأميرة إيزابيلا لويليام والاس، الذي لعب شخصيته النجم ميل جيبسون، في زنزانته داخل السجن في محاولة لإقناعه بالتوسل للحفاظ على حياته في حضرة ملك إنجلترا. حيث تقول له الأميرة: “سوف تموت، وسوف يكون ذلك أمراً محزناً”، ويرد عليها ويليام قائلا: “كل إنسان يموت، ولكن ليس كل إنسان حقا يعيش”. ذلك هو الخيط الرفيع في تعريف الفرق بين أن نحيا وأن نكون على قيد الحياة. كما أتذكر تعليقاً لافتاً من عضو مجلس إدارة أثناء اجتماع انعقد قبل بضعة أسابيع، في معرض كلامه عن الأزمة الراهنة، قائلا: “علينا ألا نهدر أزمة جيدة كهذه”، في إشارة الى مقولة ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا أبان الحرب العالمية الثانية، أن في كل أزمة فرصة.

الحقيقة هي أننا لا نعرف ما سوف تحمله لنا الأيام المقبلة، وإلى أن تعود الحياة إلى ما كانت عليه، دعونا نحاول قضاء أجود الأوقات مع عائلاتنا وأحبائنا، ونتعلم مهارات جديدة أو نشحذ مهاراتنا التي نمتلكها، ولننشط بهوايات نسيناها، ونهتم بأجسادنا وصحتنا، أو حتى في أن نلتقط أنفاسنا ونسترخي لنقرأ أو نشاهد برامج التلفزيون أو الأفلام. أنا لا أتحدث هنا عما ينبغي أو لا ينبغي لك القيام به، إنها حياتك أنت ووقتك أنت، فافعل ما تشاء. ولكن ضع في اعتبارك أن هذا الوضع الذي آلت إليه الأمور اليوم، حيث توقفت شؤون العالم، قد يكون تجربة لن تتكرر مرة أخرى في حياتك، ولو كنت شكوت فيما مضى من أن الوقت لا يكفي، فقد صار أمامك اليوم كل الوقت. وأياً كان قرارك بشأن استغلال وقتك، كن على يقين بأنها فرصة نادرة ولن تتكرر، وأنها حياة واحدة لكل منا لا أكثر، من دون حيوات إضافية كما في ألعاب الفيديو، والأهم هو أن جملة “Game Over” قد تظهر في أي لحظة.

مدونات أخرى

تحدث معي

Discover more from Rakan Tarabzoni's Blog

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading