القليل من المعرفة أمر خطير

 

 

استقيت هذا العنوان من حكمة إنجليزية قديمة، تنبه إلى خطورة أن ننهل القليل من المعرفة في مجال بعينه ومن ثم ندعي الخبرة فيه. كم مرة التقيتم فيها شخصًا ليس لديه من العلم في مجال معين إلا طرفه، ولكنه يتصرف كما لو أنه خبير هذا المجال لدرجة أن ليس لديه أي استعداد لمناقشة الطرف الآخر أو سماع حجته في جدال ما بينهما؟ وفي كثير من الأحيان، عندما يعتقد شخص ما أنه يعرف أكثر من غيره، فإن ذلك يعد في الحقيقة مؤشراً على النقيض. ويسمون هذه الحالة بتأثير “دننينغ كروغر” Dunning Kroger، وهو حالة تحيز معرفي يخطئ فيها الناس تقدير حجم معرفتهم أو قدراتهم في مجال معين. بمعنى آخر، أن تحصيلهم القليل من المعرفة يدفعهم إلى الاعتقاد بأنهم انتقلوا من خانة المتعلمين إلى خانة الخبراء المحترفين، بينما هم في الواقع بالكاد يصلون إلى مستوى الهواة. ويحدث هذا التأثير نتيجة قصور في الوعي بالذات يمنعهم من تقييم مهاراتهم بدقة. ألا يبدو هذا الكلام مألوفاً؟ ألا يذكركم بالسيد “أبو العُرّيف”؟ هذا صحيح، وأنا على يقين من أن جميعنا مر بذلك الموقف بطريقة أو بأخرى، وأننا التقينا بالكثير من “أبو العُرّيف” في حياتنا. والمفارقة هي أن من يعانون من حالة “دننينغ كروغر” لا يعرفون أنهم يعانونها.  

 

وأجد أن آدم غرانت يدق في أحدث كتبه، “فكر مجدداً” Think Again، جرس إنذار يوقظ ذلك الطفل الكامن بداخلنا. حيث يعيش الصغار لحظات اكتشاف، ويتحمسون عندما يتعلمون كيفية عمل الأشياء أو يكتشفون جوانب جديدة في العالم من حولهم. ومن ناحية أخرى، يتعامل الكبار مع بعض خبراتهم ومعارفهم على أنها نصوص مقدسة لا يمكن التشكيك فيها أو الاعتراض عليها.  

 

إن فكرة تقبل حقيقة أننا لا نعرف كل شيء وأن بوسعنا تعلم أشياء جديدة في الحياة كل يوم هي عقلية ضرورية تسمح بنمو ذواتنا وتكسبنا التواضع. أليس من باب المفارقات أننا نسخر أحياناً من أولئك الذين ما زالوا يستخدمون نظام التشغيل Windwows95، بينما نتشبث بأفكار اكتسبناها في عام 1995 ونرفض مراجعتها؟ وهذا بالطبع لا يعني أن كل ما نعرفه عرضة للتغيير أو ربما يكون خِطأً؛ ولكننا يجب أن نبقى دائمًا منفتحين على مراجعة وتنقيح معارفنا وما نعتقد أننا نعرفه وأن نقبل حقيقة أننا نتعلم دوماً كل جديد طالما أننا على ظهر هذه الدنيا.  

 

ومن تاريخ وحكايات الشركات، نتعلم أن بعض الشركات التي كانت عملاقة عصرها اختفت واندثرت لأنها رفضت قبول التغيير، والتعلم من البيئة المتغيرة حولها، وافتقدت المرونة في مواكبة متطلبات السوق؛ ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركات مثل نوكيا وكوداك وبلاك بيري. اعتقدت نوكيا أن تقنية الصوت أهم من الحاجة للبيانات ، ولم تفهم كوداك ذلك التحول في السلوك الاستهلاكي نحو الرقمي عوضاً عن الورقي. ولم تدرك بلاك بيري حاجة عملائها إلى مميزات وخدمات تتجاوز إتاحة البريد الإلكتروني على هواتفهم. يقة التي نتمناها، وأن أفكارنا وحالتنا العاطفية تتحكم بما يدخل في حياتنا.  

 

بينما ينبغي لنا كأفراد أن نكون جميعًا منفتحين على طرح الأسئلة حول كل ما نعرفه وأن نقبل أن معرفتنا قد تكون قديمة وأنه لا بأس من تغيير عقليتنا وتعلم أشياء جديدة. فلا ينبغي أبدًا أن يخجل المرء من تغيير رأيه أو قناعاته، لأن ذلك دليل على تطوره واستعداده للتعلم. ولنستحضر هنا عقلية العالم، وهو الذي لا يؤمن إلا بالبيانات والحقائق عند تكوين رأيه، فهو في المناقشات على استعداد دائم للتراجع عن آرائه إذا ثبت له أنها خطأ. وإذا قارنت بين عالم وواعظ أو سياسي، فإن عقلية العالم تسعى دائمًا للعثور على الحقيقة، بغض النظر عن مصدرها. بينما الواعظ أو السياسي سوف يساند آرائه بجوانب دينية في محاولة لإقناع الآخرين بآرائه وللتجادل باستمرار لصالح أفكاره بينما هو بالكاد يستمع أو يقتنع بآراء الطرف الآخر.  

 

ومن أبرز ما يتناوله هذا الكتاب من وجهة نظري:  

 

1. فكر مثل العلماء. يُخضع العلماء أفكارهم للتجريب باستمرار وفحصها في ضوء كل الحجج الممكنة. وهم على استعداد دائم للتعلم وتحدي ما يعرفونه وصولاً إلى الحقيقة. ولكننا، في كثير من الحالات، نناقش معتقداتنا ووجهات نظرنا مثل السياسي أو الداعية أو رجال القانون. 

 

2. لا تربط رأيك بروح الأنا فيك. تقبل أنك لن تكون دائمًا على صواب وأن لدى كل منهم حولك شيء يمكنك أن تتعلمه منهم، وكلما تبين لك أنك مخطئ، تقبل ذلك بروح رياضية وانتهز فرصة التطور والنضج. ولا تسمح لمفهوم الخطأ أن يحدد هويتك.  

 

3. استخدام الدلالات الإيجابية، وتجنب أي كلمات سلبية أو هدّامة مثل “لا أريد”ركز على الكيفية وليس السبب. من الأفضل لك أن تبدأ أسئلتك بـ “كيف” حتى تلاحظ أنت والطرف الآخر من المناقشة الفجوات في كلا الرأيين وتمتلك الرغبة في استكشاف أفكار مختلفة. سيساعدك هذا في تحييد مشاعرك، والتي عادةً ما تقضي على أي نقاش أو جدال.  

 

4. أن ندرب الصغار على التفكير، ومعاودة التفكير. هذه واحدة من أبرز النقاط الأساسية في الكتاب. إننا بحاجة إلى تربية أطفالنا على امتلاك عقلية عقل عالِم ومستكشف، وأن يكونوا على استعداد دائم لفحص وتحري ما يعرفونه وتبين ما إذا كان معرفة راسخة أم بحاجة إلى تحديث وتنقيح وإعادة نظر.  

 

أذكر هنا فيلماً، مبني على قصة حقيقية جرت أحداثها في العام 1971، عنوانه “أفضل الأعداء” (إنتاج 2019)، وأذكر أن بطله “سي بي”، الذي جسد دوره الممثل “سام روكويل”، هو رئيس جماعة كو كلوكس كلان في مسقط رأسه، دورهام، نورث كارولينا. تربى على أن العرق الأبيض متفوق على العرق الأسود، وأن هذه مجرد حقيقة من حقائق الحياة. ولم يكن لديه أي شك. وما الذي يدعوه إلى الشك في ذلك من الأساس؟ فلقد نشأ في هذه البيئة والثقافة التي تعتبر ذلك حقيقة من حقائق الحياة. كان هذا هو حاله، إلا أن تعرضت المدرسة الابتدائية للأطفال السود في بلدته للتخريب، وانتشرت دعوات مدنية لدمج المدرستين حتى يتمكن الأطفال السود من الذهاب إلى المدرسة مع الأطفال البيض. وبحلول نهاية الفيلم، يُلقي “سي بي” خطابًا في موقع التصويت على المقترح، وكان تغير رأيه ملحوظًا. لقد كان قادرًا على تغيير معتقداته الراسخة بأن السود أدنى منزلة من البيض، واقتنع بأن جميع البشر سواسية أمام الله. وخاطب “سي بي” الجمهور بكل شجاعة إنه لم يعد يعتقد أن السود أدنى منزلة من البيض، وبالتالي لا يمكن أن يستمر رئيساً لتلك الجماعة العنصرية، وهو يعلن ذلك بينما يمزق بطاقة عضويته فيها.  

 

إن اقتناعك بضرورة تغيير مسارك إلى مسار مغاير، مهما كان طول المسافة التي قطعتها فيه، لهو علامة نضج ووعي متطور بالذات وتجسيد لإرادة قوية. ومن المفارقات أن صداقة حميمة تنامت بين الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم؛ الأبيض الذي كان رئيس كو كلوكس كلان، والسيدة سوداء البشرة التي قادت الحركة المنادية بدمج التلاميذ السود في مدرسة البيض، وهي صداقة دامت طويلاً بعد ذلك الصدام.  

 

المراجع:  

 

• كتاب فكر مجددا – للكاتب آدم غرانت 

 

• Avnishanand Blog 

مدونات أخرى

تحدث معي

Discover more from Rakan Tarabzoni's Blog

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading