وبالوالدين أحسانا

 

 

في أحدث أفلام شركة ديزني الكرتونية “ترنينغ ريد” (Turning Red)، تؤدي البطلة ميمي شخصية الابنة الطيبة والمؤدبة التي تسعى إلى غاية واحدة في الحياة ألا وهي أن تكون الابنة البارّة بوالدتها والتي تطيع أوامرها طوال الوقت ولا تخيّب أملها أبدا. أوليس هذا بالضبط هو ما يحلم به كل أم وأب؟ ليس بالضرورة. تدور قصة الفيلم حول فتاة مراهقة تحاول الموازنة بين اكتشاف شخصيتها وماذا تريد من الحياة، من جهة، مع المحافظة على حب والديها لها في الوقت ذاته. كما تتمحور فكرته أيضاً حول الأم التي تحاول الإفراط في حماية ابنتها لكنها تتعلم كيف تتخلى عن تشددها وكيف تمنح ابنتها الحرية التي تحتاج إليها لتشق طريقها في الحياة. من الطبيعي أن نرى ميمي التي بلغت الثالثة عشرة من العمر حالها حال أي مراهق في هذا العمر تسعى إلى التمرد، وكسر الطوق الذي تفرضه والدتها عليها، وخرق جميع القواعد حتى تمكنت من النهاية من التوصل إلى طريقة تسمح لها بفعل ما تريد والمحافظة على علاقتها الطيبة بأمها.  

 

ينتهي الفيلم بالكلمات التالية التي تقولها ميمي لوالدتها: “في أعماق كل واحد منا هناك وحش. كلنا لدينا جزء فوضوي وصارخ وغريب مختبئ داخلنا، والكثير منا لا يسمح لهذا الوحش بالانعتاق أبداً”. وأنا أقول إن علينا إخراجه من أعماقنا لكننا يجب أن نتحلى بما يكفي من المسؤولية للسيطرة عليه وعدم السماح له بأن يسيطر علينا.  

 

بينما كنت أكتب هذه الكلمات، استعرضتُ في ذهني شريط ذكرياتي ولاسيما الأوقات العصيبة التي تسببت بها لأمي وأبي عندما كنت مراهقا. ورغم أنني كنت ابتسم وأنا أسترجع هذه الذكريات وهي تجول في خاطري، إلا أنني شعرت بالخجل على كل الآلام التي تسببت بها لهما، كما شعرت بالامتنان أيضاً لأنهما تحلّيا بالصبر في التعامل معي، ولا يسعني إلا أن أقول “ربّ ارحمهما كما ربياني صغيراً” وأنا سأحبكما يا أمي وأبي ما حييت. 

 

عندما كنت في السادسة عشرة من عمري، أردت أن أقوم بعمل معين، وعرض والدي مساعدتي في إنجازه لكنني أصرّيت على فعل ما أريد دون أي إرشاد أو توجيه، لا بل رفضت حتى الإصغاء إلى نصيحته. فقد كنت اعتقد وقتها أنني أعرف كل شيء. وبطبيعة الحال، لم تمضِ إلا بضعة أيام من الجهد الضائع سدى حتى أدركت أنني عاجز عن التقدّم قيد أنملة، فما كان مني إلا أن جررت ذيول الخيبة وعدت إلى والدي طالباً منه يد العون. والدي كان كريماً وساعدني بمنتهى الصبر ولقنني درساً مفاده أن الإنسان يستطيع طلب المساعدة إذا احتاج إليها دون أن يشعر بالحرج. بل العكس هو الصحيح، إذ يجب علينا أن نستعين بمعارف الآخرين إذا كانوا أكثر خبرة منا. ولا يجب أن ننسى أن أهالينا كانوا أطفالاً وشباباً في يوم من الأيام، ولا شك أنهم قد مرّوا بمعظم ما نمر به الآن.  

 

تربية الأطفال هي واحدة من أصعب المهام التي يمكن لأي إنسان أن يضطلع بها. فهي واجب مستمر على مدار ساعات اليوم وعلى مدار أيام الأسبوع. ليس هناك إجازات أو عطلة ولا بد للمرء أن يبذل قصارى جهده طوال الوقت ودون أي كلل أو ملل. يجب ألا نفرط في حماية حمايتهم، ولكن يجب ألا ندعهم يفعلون ما يحلو لهم طوال الوقت. يجب أن نحترم خصوصيتهم، لكن نريد أن نراقبهم لنعرف من هم أصدقاؤهم وما هي الأشياء التي يرونها على شبكات التواصل الاجتماعي. يجب أن نعلمهم كيف يتكلون على أنفسهم، لكننا نشعر أننا يجب أن نوفر لهم كل ما يحتاجون إليه لكي يعيشوا حياةً مريحة. ندعوا لهم بالنجاح في حياتهم وأن يحققوا أحلامهم، لكن نحاول نصحهم بالتوجه إلى مجالات معيّنة وتجنّب مجالات أخرى، على أمل أن يساعدهم شغفهم في كسب رزقهم. باختصار، الأهالي مطالبون بموازنة هذه الأشياء وإتقان فن تربية أبنائهم.  

 

لسنا جميعاً أهالي يربّون أطفالاً، لكننا جميعاً بنات وأبناء لأهالينا الأحياء منهم أو الأموات. ونحن قادرون جميعاً على تشرّب الحكمة من أهلنا من خلال إعطائهم كل الاهتمام لما يقولونه وما يفعلونه وهم يمضون قُدُمَاً في رحلتهم في هذه الحياة، ومن خلال حضورنا بجميع حواسنا ونحن معهم. علما بأنهم سيكونون بحاجة إلى قدر أكبر من الاهتمام والعناية منّا كلما كبروا، تماماً كما وفّروا لنا العناية والاهتمام ونحن صغاراً.  

 

في كثير من الأحيان لن يقدّر المرء والديه حق قدرهما إلا عندما يصبح أباً أو أماً، وقتها فقط سوف يفهم أن كل ما فعله والداه من أجله كان نابعاً من حبّهما له مهما كان ذلك الحب قاسياً.  

 

وكل ما يسعني قوله لنا جميعاً نحن الأبناء والبنات، وحتى لو كنّا والدين حالياً، هو أننا يجب أن:  

 

1) نتعلم كيف نحبّ والدينا حبّاً غير مشروط وبكل ما أوتينا من قوة. فهذا هو بالضبط حبّهم لنا مهما كنا أخياراً أو أشراراً.

 

2) أن نكون حاضرين ذهنياً عندما نزورهم ، وخاصة إذا لم نكن نعيش معهم في ذات المدينة ولا نراهم إلا بضع مرات في العام. فنحن لا نعلم متى ستكون آخر مرة نراهم فيها. 

 

3) نركز في النقاش معهم على جعلهم يشعرون بالاحترام وبأن صوتهم مسموع، ولا أن نركز على أن نكون على حق.. 

 

4) ننتبه إلى الأشياء الصغيرة التي تُدْخِلُ السعادة إلى قلوبهم. 

 

5) أنتذكر أننا سنبقى أطفالاً صغاراً في عيون والدينا مهما كبرنا. 

 

6) لا نختار أي مهنة، أو تخصصا دراسياً، أو شريك حياة لمجرّد إرضائهم. بل لا بد من أن نقول لهم ما هي الأشياء التي نريدها في حياتنا. عبّر عمّا تريد وستتفاجأ بحجم التفهم والعقلانية اللذين سيبدران عن والديك. فآخر شيء يجب أن تفعله هو أن تُقِدم على خطوة ما لمجرّد إرضائهم دون أن تكون هذه الخطوة هي ما تحبّه، لأنك قد تخسر وتندم وتجدك نفسك تلقي باللوم عليهم. 

 

أما ما أقوله للأهالي الذين يقرؤون هذا الكلام فهو التالي:  

 

1) لا تحاولوا أن تجعلوا ابناءكم وبناتكم نسخة محسّنة عنكم. بل وفّروا لهم الدعم ليقدّموا أفضل ما لديهم. 

 

2) لا تضغطوا عليهم لتجعلوهم يشعرون بالذنب ولكي يفعلوا ما تريدون؛ بل قولوا رأيكم واستعملوا المنطق لإقناعهم، ثم اتركوا لهم حرّية الاختيار. 

 

3) لا تُفرِطوا في ممارسة الحماية. بل دعوهم يواجهون العالم ويتعلمون من أخطائهم. بوسعكم مراقبتهم من بعيد إذا كان ذلك يرضيكم. 

 

4) الوقت القيّم الذي تمضونه معهم أهم بكثير من أي هدايا يمكن أن تقدموها لهم. 

 

5) ذكرياتهم طفولتهم بين بأيديكم. فساعدوهم على تكوين ذكريات جميلة يستطيعون الاحتفاء بها عندما يتقدّم بهم العمر. 

 

6) لا تحاولوا تقويض إحساسهم بالأمان والاستقرار لتحقيق أي هدف آخر مهما كان. فهذان العاملان أساسيان جداً في استقرارهم النفسي طوال حياتهم.  

 

مارس/ آذار هو عيد الأم في عالمنا العربي لذلك أقول لأمي الحبيبة كل عام وأنتِ بألف بهذه المناسبة. أنا أحبك كثيراً يا أمي. وإلى جميع الأمهات الرائعات القويات أقول قوّاكن الله، فنحن الرجال نعجز عن فهم الطريقة التي تنجزن بها هذه المهمة السامية، بالإضافة لكل مسؤولياتكن الأخرى. ولكن لا بأس، فنحن لا نحتاج إلى أن نفهم كيف تقمن بذلك لأننا نثق بقدراتكن المذهلة على إنجاز عدة مهام في الوقت ذاته.  

 

وكما يقول ماهر زين في أغنيته الجميلة الموجهة إلى جميع الأمهات “أنتِ الأولى في نظري”” (Number One For Me): “أمي لقد كبرت الآن، وبدأ يوم جديد. أود أن أرسم الابتسامة على وجهِكِ كل يوم”.  

مدونات أخرى

تحدث معي

Discover more from Rakan Tarabzoni's Blog

Subscribe now to keep reading and get access to the full archive.

Continue reading